قراءة وجودية بروفسير منال الشربيني عن رواية مآساة إبليس محي الدين محمود حافظ

 

Part 2

قراءة وجودية لبروفسير  منال الشربيني عن رواية مآساة إبليس محي الدين محمود حافظ



Exclusively Daily graph Arabia 

لمَّا يزل الفكر يتتبع فكرًا هنا، وتأويلًا هناك، ولمَّا تزل الأبجدية تدعو الإنسانية إلى فك رموز النفس البشرية، ولا أظن أنها ستنتهي حتى قيام الساعة، ومن هنا، ألجُ إلى عالم " رسالة إبليس"، لعلني آتيكم منها بقبس، أو أجد على الحرف خلاصًا للروح البشرية التي لمَّا تزل تتأمل في روح الله، تحدثه تارةً، وتفكر، وتوسع الحقيقة تأويلًا، في محاول لفهم أعمق لكلام الرب الإله، علها تغوص في عين اليقين، فتنهل من لدُنِ عليم حكيم. 

جاء في" رسالة إبليس":


کْيَفُ سِقُطِتٌ يَآ نِجّمًةّ آلَسِمًآء

يَآ نِجّمًةّ آلَصّبًحً آلَزٍآهّرةّ

کْيَفُ لَعٌنِتٌ وٌ آنِتٌ آلَضيَآء

وٌهّوٌيَتٌ آلَيَ أرض جّردٍآء

کْنِتٌ تٌهّمًسِ بًقُلَبًکْ

سِأصّعٌدٍ آلَيَ أعٌآلَيَ آلَسِمًآء

وٌ أجّلَسِ عٌلَيَ عٌرشُ آلَإلَةّ®


أعلم أن من تَابَعَني

يقينا  إتَّبَعَنِي

بين "يا: حرف نداء للتنبيه وإظهار الانفعال (الخولي، 2000)، ثم الصبح، يبدو لنا أن الُمنادي ينشد بشارةً ما، يراها كتنفس صبح، ثم يفاجئنا بطرح استفهام :كيف سقطتِ؟ / كيف لعنتِ؟،، كيف: اسم استفهام للحال، يسأل عن كيفية وقوع الفعل (عبد العال، 2005).

بين السقوط/ الهبوط والانحدار من مكان عالٍ إلى مكان أدنى، وبين لعنتِ/ التي تشير إلى الطرد والإبعاد عن الرحمة أو الوقوع تحت غضب أو سخط، ومصاحبة الضياء، ماهيةً وحقيقة، تقع الأبجدية بين هذا التناقض؛  بين كونها "الضياء" وسقوطها ولعنتها يثير الدهشة والاستغراب، ثم يأتي الفعل هويت ليدل على السقوط السريع والمفاجئ من مكان عالٍ، إلى أرض جرداء فينتهي بذلك بهاء الصورة، وتعكس اللغة عبر اللفظة القحط والخلو من النبات والخصوبة. 

كنتِ تهمسين بقلبكِ،

 ترى من هي تاء المؤنث التي يشير إليها النص؟ والتي سرعان ما يتركها ويسمو حتى تهيء له نفسه أنما سيجلس على عرش الإله؟ حيث تبدو الآنا عالية بغرور، جلية في الفعل" سأصعد"، حيث الفاعل ضمير مستتر تقديره "أنا"، وقبل أن أدخل إلى عالم  "رسالة إبليس"، هل لي أن اعتبرها من أحد أبناء إبليس، من الجن والإنس؟ هل لي أن أتعامل مع النص من خلال اللغة فقط، وأنا أؤمن أن النص المكتوب ليس النص الأصلي، وإنما النص الاصلي هو ما اعْتفمِلَ في وعي القاريء، هل لي أن أطلب من القارئ أن يأخذ شهيقًا عميقًا، قبل أن يحكم على عالم؛ رسالة إبليس" من حيث هي عمل أدبي، إبداعي، محض، خاصةً وقد منح الله نفسه، جل جلاله، الفرصة لإبليس آدم أن يجادله، ويحاوره، بل و يتوعد آدم وذريته بالتنكيل والغواية ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، ثم، ألم يتفوق شر ابن آدم على غواية إبليس، وزاد من وقاحته، أنه يلصق به كل جرم؟ هلَّا منحناه، إبداعًا، حق الرد؟!! دعونا نستمع إلى مرافعته، فلربما اكتشفنا أن إبليس الذي يجري من بني آدم مجرى الدم، مفعول به، وليس فاعلا..وربما لعنَّاه، كما نفعل دومًا، إلى أن تقوم الساعة، وربما كان القول بالضد هو عين الحقيقة..

جاء في الرسالة:

سأصعد إلى أعالي السماء 

وأجلس على عرش الإله

فمن هذه " الأنا" التي تتجرأ على الإله، ويبلغ بها الطموح الحد  الذي معه تقرر الصعود والجلوس على عرش الإله، إنها قمة التمرد والعصيان.

وجاء أيضًا:

أعلم أن من تابَعَنِي 

 فيقينًا اتَّبَعَنِي

هنا مرة أخرى يعلو صوت "الأنا"، التي ظنت أنها يدل على قدر كبير من الثقة واليقين والمعرفة يمكنه من غواية الآخر، وإجباره على اتباع سبيله.

جاء استخدام أسلوب الاستفهام في بداية النص

 ("كيف سقطتِ؟" و "كيف لعنتِ؟") 

لإثارة الدهشة والاستغراب والتساؤل حول هذا السقوط المريع لهذه الكينونة التي كانت مضيئة.

كما يبرز التضاد الضمني بين وصف النجمة بأنها "الضياء" وبين سقوطها إلى "أرض جرداء" ولعنتها فداحة التحول والانحدار الذي طرأ عليها. يؤكد تكرار عبارة "يا نجمة السماء" و أداة الاستفهام "كيف" على أهمية هذا الكائن السماوي وعلى حالة السقوط المدهشة والمُستنكَرة.


وتحمل دلالات "نجمة السماء" و "نجمة الصبح الزاهرة" رمزية قوية. تقليديًا، قد ترمز النجوم إلى الملائكة أو الكائنات الروحانية السامية. وقد يرمزسقوطه إلى السقوط من مكانة رفيعة أو ارتكاب خطيئة عظيمة. وبديهيًا، يرمز "الضياء" إلى النور والهداية والخير، بينما ترمز "الأرض الجرداء" إلى القحط والضياع والبعد عن مصدر الحياة. ويمثل"عرش الإله" قمة السلطة الإلهية.

هنا، وبشكل واضح، تجسد رمزية النص قصة سقوط لوسيفر (إبليس في السياق الإسلامي والمسيحي) 

من السماء بسبب كبريائه ورغبته في أن يكون مثل الله أو أعلى منه.  وهنا نرى النص يشير إلى لوسيفر بلقبه التقليدي/ "نجمة الصبح الزاهرة" الذي كان يُطلق عليه قبل سقوطه (ميلتون، 1667). يضيف الجزء الأخير من النص 

("أعلم أن من تابعني فيقيناً اتبعني")

 بُعدًا آخر،هذا يعكس فكرة الإغواء والإضلال التي يُنسب إلى إبليس ودوره في إبعاد الآخرين عن طريق الحق.

وجاء في الرسالة:

مهلا 

اسمع همسكم و لعناتكم

لي الآن يا أولياء الله

تلك متعتكم بني آدم

آه يا آدم

بنوك يسبون الله جهرا 

في عالمكم الممتع

تستحلون مال اليتيم 

وتزنون  .. 

آه يا آدم

ادخلت إلي  مصير  ولا حيلة

لا اختيار  لا بصيرة

فقط شرير ملعون

كان يومًا قاهر المجون

أمير السيف و النار

وعابد مطيع للقهار

وخُلِقْت َأنت بيديه

لتجعل مصيري 

بيديك

أَجْري مجري الدم في عروقكم

مهلا

لنعد ليومنا السادس

ولنري المشهد من قريب

أنا  الآن  شيطان

لوسفير

" أبا مرة"

انتهي الطاووس العابد

ولكني لازلت في الجنة

وسمعت كل مخلوقات الجنة

بعد لقائي مع رب الملكوت

و سمع صوت الرب 

مخاطبا آدم 

يحذرة مني ثلاث مرات

أنني سأجعله يسقط

في الخطيئة  

ثلاث مرات 

و مدونة في قرآنكم

لو كنتم مسلمين

انظروا هناك

بين أشجار التين و الرمان

و أنهار اللبن و العسل

بين الاستنكار، والاعتراض أو طلب الإمهال وإعادة النظر وتكرار لفظة "مهلًا"  في بداية المقطعين نرى " أنا" معذبة تفوح من تعاليها حالة الاستياء والرغبة في لفت الانتباه.

 إذ إنه يقول بلهجة ساخرة لهؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم من المقربين أو الأولياء:

 "أسمع همسكم و لعناتكم لي الآن يا أولياء الله

 وجاء استخدام ظرف الزمان "الآن" ليكون معادلا موضوعيًا لـ لعنة البشر إبليس إلى الأبد، فيأخذ في توجيه الاتهامات لهم، ويذم فيهم إصرارهم على لعنه، والرغبة الدائمة في التنكيل به، يقول:

"تلك متعتكم بني آدم" 

 ثم يقول:

"آه يا آدم"

 أكاد أسمع تنهيدة ملؤها الحسرة واللوم الموجه مباشرة إلى آدم باعتباره أصل الوجود البشري ومصدر المأساة من وجهة نظر إبليس. في مفارقة مؤلمة من وجهة نظر إبليس. بينما يلعنونه، يرصد لهم، ذرية (بني آدم) أنهم يرتكبون أفعالًا تعتبر في صميمها عصيانًا وتمردًا على الله مثل أنهم ("يسبون الله جهرا"). وهو يتكلم بلغة ساخرة حين يصف عالمهم بـ "الممتع" بينما  راح يكيل لهم الاتهامات، ويذكرهم بكم التجاوزات التي قاموا بها تجاه الرب،  ويذكرهم  بأنهم أُسّ الانحراف الأخلاقي والديني.

 يقول:

"بَنُوكَ يسبون الله جهرا في عالمكم الممتع""تستحلوا مال اليتيم وتزنوا"

هنا يرى إبليس نفسه ضحية لمصير محتوم، حيث سُلبت منه الإرادة والقدرة على الفهم والاختيار، فيقول:

"أدخلتني مصير ولا حيلة لا اختيار لا بصيرة""فقط شرير ملعون كان يوما قاهر المجون أمير السيف و النار وعابد مطيع للقهار"

ثم بدأ يعدد صفاته الحميدة فيما قبل، حين كان عبدًا مطيعًا، يزهو بنفسه في الملأ الأعلي، وهو بين يدي الله القاهر ذي الغلبة والجبروت ملكًا لخ هيبة ومكانة وجلال، وهذا يحيلنا إلى أمر مهم وهو تبدُّل الحال بين طرفة عين وانتباهة، فلا يغُرَّن أحد قوته، وملكه، مهما بلغ من مكانة.

"وخُلِقْتَ أنت بيديه لتجعل مصيري بيديك"، 

هنا نرى حالة من الاستعلاء اللفظي، واللوم المباشر لبني آدم، إذ يرى إبليس أن آدم هو من  أغواه، وأن خلقه بصفاته هذه، جعله يغار منه، ويتكبر، ويعصى، فصار مصيره معلقًا بإرادته، ولكن من أغوى من؟ سؤال يحتاج إلى وقفة؟ هل خلقت النفس الأمارة مع، أم بعد خلق آدم؟!!

"أجري مجرى الدم في عروقكم"

مرة أخرى، هل كان في مادة خلق آدم قبس من أثر إبليس؟! هذا سؤال يطرح نفسه هنا بشراسة. 

"لنعد ليومنا السادس"، هنا نرى انتقال زمني إلى فترة الخلق، قبل السقوط. 

ثم اعتراف يغلفه الغرور أيضًا:

"أنا الآن الشيطان لوسيفر " ابا مُرَّة"

"انتهي الطاووس العابد ولكني لازلت في الجنة"

"وسمعت كل مخلوقات الجنة بعد لقائي مع رب الملكوت"

"الكل سمع صوت الرب مخاطبا آدم يحذرة مني ثلاث مرات أنني سأجعله يسقط في الخطيئة"

هنا يركز إبليس هنا على التحذيرات الإلهية لآدم منه، مما قد يوحي بأنه كان له دور مقدر أو متوقع في اختبار آدم، إذ إن تكرار التحذير ثلاث مرات يؤكد على حتمية الحذر، وصدور قرار لإبليس أن يكون مادة امتحان وغواية. هنا نزلت مرتبة إبليس، وسقط، قبل السقوط بقليل. أليس كذلك؟!

"ثلاث مرات ومدونة في قرآنكم لو كنتم مسلمين"

"انظروا هناك بين أشجار التين و الرمان وأنهار اللبن و العسل"

لابد هنا من وقفة طويلة أمام الاستفهام الضمني في النص، حيث أنه يعجُّ بالتساؤلات والاستنكارات التي تحمل معنى الاستفهام ("تلك متعتكم بني آدم؟").

وجاء التضاد واضحًا بين وصف إبليس لنفسه في الماضي ("قاهر المجون عابد مطيع") وحاضره ("شرير ملعون"). كما يوجد تضاد بين نعيم الجنة ومصيره الحالي. وجاءت عبارات السخرية والتهكم تجاه بني آدم وربما حتى القدر الإلهي من وجهة نظره، لتقول على لسانه إنه مستاء مما حدث له، إذ إنه يعتبر أنه لولا خلق الله لآدم لما تبدَّلَ حاله وصار ملعونًا، فهل يمكن قياسًا على ذلك، أن نسخر، في المقابل، ممن قال أو بدأ مقولة:" منك لله يا حوا نزلتينا من الجنة لما أغويتي آدم بأكل التفاحة"، أليس هذا هو نفس فكر لوسيفر تجاه مسألة الغرض من خلقه، وتحوُّل مساره من ملك كريم إلى شيطان رجيم؟

وكان تكرار لفظة "مهًلا" وعبارة "آه يا آدم" ليؤكد على حالة الاستياء والتحسر.

من منظور إبليس، يقدم النص وجهة نظر إبليس حول سقوطه ومصيره. يرى نفسه ضحية للقدر الإلهي، حيث خُلق بصفات معينة ووُضع في موقف حتمي أدى إلى عصيانه. يلوم آدم على إدخاله في هذا المصير. كما ينتقد سلوك بني آدم الذي يرتكبون المعاصي بينما يلعنونه.

وبينما تنظر الديانات الإبراهيمية (الإسلام والمسيحية واليهودية) إلى سقوط إبليس كنتيجة لكبره وعصيانه الصريح لأمر الله، واعتباره رمزًا للشر والاختيار الحر في الوقوع في المعصية، تتعارض فكرة القَدَرية المطلقة التي يقدمها النص مع مبدأ الاختيار والمسؤولية الفردية في هذه الديانات (الأشعري، د.ت.؛ أوغسطين، القرن الرابع الميلادي/1998).

مقارنة بكتابات أخرى، يقدم  جون ميلتون في ملحمته" الفردوس المفقود" صورة أكثر تعقيدًا للوسيفر؛  يبرزه شخصية قوية ومتمردة ، ولكنه في النهاية يظل تجسيدًا للشر في مواجهة الخير  الإلهي (ميلتون، 1667). في " رسالة إبليس" يتفق النص الحالي مع ميلتون في إعطاء صوت لإبليس واستعراض دوافعه، لكنه يركز بشكل أكبر على الشعور بالظلم والقَدَرية.

وفي تجربة الحلاج الصوفية "أنا الحق"، التي انتهت بإعدامه بتهمة الكفر تتضمن تعابير فهمها البعض على أنها اتحاد أو حلول بالله ("أنا الحق"). على الرغم من اختلاف السياق (صوفي مقابل شيطاني)، إلا أن هناك تشابهًا سطحيًا في تجاوز الحدود والادعاء بمكانة قريبة من الإله. لكن دوافع الحلاج كانت روحية وعرفانية، بينما دوافع إبليس في النص تبدو نابعة من الكبرياء والتمرد (النجار، 2003).

كتابات أخرى تتناول "لعنة الكفر": هناك العديد من الكتابات التي تتناول مفهوم الكفر والتمرد على الله، وغالبًا ما تُنظر إلى هذه الأفكار على أنها خطيرة تستوجب العقاب. وربما اتُّهم أصحاب هذه الكتابات بالإلحاد، فهل وقفنا بالفعل على معنى وفحوى مصطلح" إلحاد" في مدلوله الأصلي، كي نصنف من يعارض فكرنا التقليدي، أم أننا نعاني بالفعل أزمة مصطلحات، ويقودنا أعمى ما إلى اتجاه" حافظ مش فاهم"؟؟!!

يُْتبع..


Daily graph Arabia 

ترخيص لندن

 المصادر

أوغسطين، القديس. (1998). اعترافات القديس أوغسطين. دار الكتاب العربي. (العمل الأصلي نشر في القرن الرابع الميلادي).

النجار، ماهر عبد الله. (2003). الحلاج: الشهيد الصوفي. دار مدارك.

ميلتون، جون. (1667). الفردوس المفقود.






إرسال تعليق

0 تعليقات