الأدب بين الأصالة والتجديد كيف نعيد إحياء التراث الأدبي في ظل العولمة
الأدب العربي يقف اليوم أمام مفترق طرق تتسارع فيه وتيرة التغيرات بفعل العولمة والتكنولوجيا. مع هذا التسارع، تطرح قضية إحياء التراث الأدبي بقوة؛ ليس فقط كمسألة ثقافية بل كضرورة وجودية تتعلق بالهوية. فكيف يمكن للأدب العربي أن يحافظ على جذوره الأصيلة وفي الوقت ذاته يجدد نفسه ليواكب العصر؟
المفكر المغربي محمد عابد الجابري يرى أن التراث الأدبي ليس مجرد نصوص قديمة يجب أن تُحفظ، بل هو إرث حيّ يحتاج إلى فهم وتوظيف جديد يتماشى مع تحديات العصر. الجابري يؤكد أن العودة إلى التراث لا تعني التمسك الأعمى بما هو قديم، بل تكمن في إعادة تفسيره واستنباط العِبر والدروس التي تجعله متجدداً باستمرار. وفي ضوء ذلك، يُطرح السؤال: كيف يمكننا إحياء هذا التراث في ظل ثقافات عولمية قد تهدد بفقدان الهوية؟
إدوارد سعيد، الفيلسوف والناقد الأدبي، يشير إلى أن الأدب المحلي يتعرض لخطر الذوبان في الثقافة الغربية المهيمنة بفعل العولمة. سعيد يرى أن التصدي لهذه الهيمنة يتطلب من الأدباء العرب التمسك بالتراث وإعادة توظيفه بطريقة تتناغم مع القيم العالمية دون أن تتنازل عن خصوصيتها. إن تجديد الأدب العربي لا يعني الاستيراد العشوائي للنماذج الغربية، بل هو بحث في الذات وتطوير لمفاهيم تواكب العصر مع الحفاظ على الجذور.
في هذا السياق، تبرز جدلية الأصالة والتجديد كمحور فكري رئيسي. مالك بن نبي، الفيلسوف الجزائري، دعا إلى النظر في التراث بعيون ناقدة، مشيرًا إلى أن الأدب العربي قادر على التجديد والإبداع إذا تمت مراجعة تراثه بفهم عميق ووعي بمقتضيات الحاضر. التجديد الأدبي، في نظر بن نبي، ليس انفصالاً عن التراث بل هو عملية فهم وتأمل تمكن الأدب من أن يظل حياً وقادراً على استيعاب الجديد دون أن يفقد هويته.
الأدب يُعتبر أداة مهمة لتعزيز المرونة الفكرية في ظل التطورات المعرفية والاجتماعية. جيل دولوز، الفيلسوف الفرنسي، يشير إلى أن الأدب هو حدث مستمر يتجاوز الزمان والمكان. من هذا المنطلق، ينظر خبراء التطوير المعرفي إلى الأدب كأداة لتعزيز التفكير الإبداعي وتطوير المرونة المعرفية. إن الأدب هو وسيلة لإعادة صياغة الواقع الاجتماعي والثقافي بطريقة تمنحه ديناميكية وقدرة على التكيف مع التغيرات المستمرة.
في ظل العولمة، تزداد أهمية إعادة صياغة الأدب العربي بحيث يتماشى مع تطلعات الجيل الحالي. ولتحقيق هذا الهدف، يمكن استغلال التكنولوجيا والوسائط الرقمية كأدوات لعرض الأعمال الأدبية التراثية بأساليب تتناسب مع الروح العصرية. ومن جهة أخرى، لا بد من تعزيز حركة الترجمة والتبادل الثقافي مع الآداب العالمية لخلق حوار أدبي بين الماضي والحاضر.
إن إحياء التراث الأدبي لا يتطلب فقط إعادة نشره، بل يحتاج إلى فهمه وإعادة تقديمه بطرق تلبي احتياجات الأجيال الجديدة. قد تكون هذه العملية مزيجاً من الأصالة والتجديد، حيث يمكن للأدباء والمفكرين أن يعملوا على إعادة تشكيل الهوية الأدبية العربية بطريقة تحافظ على جوهرها وتستجيب في الوقت ذاته لمتطلبات العصر. في نهاية المطاف، الأصالة والتجديد ليسا نقيضين، بل هما مساران متوازيان يتطلبان من الأدب العربي أن يعيد اكتشاف نفسه في كل مرحلة من مراحل تطوره. الأدب الذي ينجح في هذه المهمة سيظل قادرًا على الإلهام والتأثير في الأجيال القادمة، مُعيدًا للأمة العربية مكانتها في الخارطة الثقافية العالمية.
..................................
الدكتور محمد آدم أبوقرون
كاتب وناقد
وخبير باحث في التطوير المعرفي
الدوحة – قطر
سبتمبر ٢٠٢٤م
1 تعليقات
أحسنت وابدعت أستاذي
ردحذف